• عدد المراجعات :
  • 1639
  • 5/31/2006
  • تاريخ :

شفرة دافنشي: وقفة تأملية جريئة

د سيّار الجميل

لعل كتاب " شيفرة دافينشي " لمؤلفه دان براون الذي اثار الرأي العام العالمي يستحق وقفة تأملية يتساءل صاحبها عن مدى المتغيرات الفكرية الجذرية التي ستنال من المسلمات الدينية والتاريخية في القرن الواحد والعشرين.. واذا كان هناك ثمة انقسام في الرأي بين مؤيد لشيفرة دافينشي ام معارض لها، فان على أي ناقد ومحلل ومفّكر في الموضوع ان يكون صاحب رؤية محكمة بعيدا عن التهليل بوجه دان براون ، وبنفس الوقت لا يمكن ان يسفّه المرء ما جاء به ويصفه بالمؤامرة! انني اعتقد ان دان براون سوف لن يكون الاخير في سلسلة الكتّاب والمفكرين والنقاد الذين وقفوا ازاء موضوع " المسيح " ومسألة ولادته المثيرة للجدل ونهايته المحزنة عبر حياته المأساوية، وهم لا يعترفون البتة بما هو متداول بين الناس من الرؤى والثوابت سواء عند اليهود او المسيحيين او المسلمين!ان هذا " الموضوع " قد اثار جملة من الفلاسفة والرهبان والقديسين، وخصوصا منذ بدء العصر الحديث قبل خمسمائة سنة.. وانه بالقدر الذي كان هناك من المشككين بتلك الولادة، كان هناك صراع ديني لاهوتي طويل جدا بين المسيحيين انفسهم حول طبيعة السيد المسيح مما سبّب انقسامات لا حصر لها، ثم بين اليهود والمسيحيين الكاثوليك يدور في ماهية السيد المسيح، وكيف عاش في كنف اليهود الذين كانوا يتحينون الفرص لتصفيته لخطورته على الطريقة التي كانت تخدم مصالحهم بعيدا عن تعاليم النبي موسى التي لم نعد نجدها اليوم ووصايا بقية الأنبياء الذين مضى على ذكرهم ازمانا.. وبقدر ما تختلف الروايات الدينية اللاهوتية والاسلامية حول تلك الولادة، فلقد اختلفوا ايضا في مسألة نهايته بين تعليقه مصلبّا على الخشبة وبين رفعه الى السماء.. المهم، انه بين الحدثين المختلف حولهما، بشّر السيد المسيح بدين جديد لم يدرك ابدا انه سينتشر في الارض على يد حوارييه بين قارات ثلاث: آسيا واوروبا وافريقيا.. او ليبقى منذ الفي سنة حتى اليوم يزرع المحبة وينشر السلام ويثير التساؤل والاعجاب والتفكير، بل وتصدر جملة هائلة من الانطباعات عنه .


شيفرة دافنشي: بداية عصر فلسفة جديدة

ان ما يهمنا في الذي يشغل اليوم تفكير الناس وهم ينقسمون في امر تصوير شيفرة دافنشي بين مؤيد ومعارض يمثّل عامل اثارة حقيقي في عالم يهتم بمثل هذا " الموضوع " الذي هو بحاجة ماسة الى اجراء حفريات دينية حقيقية تتجاوز الدراسات التي لا تعد ولا تحصى في اللاهوت وعلم الاديان المقارن.. بل واعتقد ان هذا القرن الجديد سيشهد انتاجا فلسفيا يعتمد تفكيك التاريخ بحقائقه او اساطيره من اجل تأسيس قطيعة حقيقية بين الواقع اليوم وبين الماضي الراحل.. ان محاولة دان براون في شيفرة دافينشي هي مثيرة للغاية نظرا لأنها تضمنّت الكشف عن رؤى جديدة سواء قبلنا بها ام لم نقبلها، فمن حق أي كاتب ومفكر ومؤرخ وروائي ان يثير اليوم ما يراه يشكّل قطيعة مع أي موضوع تاريخي يمكنه ان يشرّحه ويأتي بنتائج يمكن ان يفكر الناس فيها وبادواتها ووسائلها وكل مدلولاتها ووثائقها!

نعم، ان "شيفرة دافينشي" رواية مثيرة وكبيرة حقا وانها تستحق ان يقف الانسان عليها وقفة غير عادية.. ويعتبر مؤلفها قد اكتشف في عمل ليوناردو دافنشي الرسام الأيطالي الشهير في عصر النهضة (1452-1519) والذي أشتهر برسومه الدينية الكثيرة المعلنة والسرّية أضافة الى اللوحة الكبرى التي صّور فيها العشاء السري موضوع البحث ولا زالت الكثير من رسوماته ولوحاته الكبيرة والمثيرة تزين كاتدرائية مار بطرس في روما وكنائس أخرى ومتاحف عالمية، كما ان له (الموناليزا) وهي اللوحة العالمية الشهيرة التي تقبع لوحدها في احدى قاعات متحف اللوفر بباريس وغيرها.


الميثات الخطيرة التي ستظهر في سيمافور تاريخي بهوليوود!!

كلنا يعرف ان ليوناردو دافنشي قد جاء بعد المسيح بخمسة عشر قرنا، وقد نسب دان براون اليه بعض معلومات وألغاز تمّس باسرار ولادة المسيح.. باختصار، ان من يقرأ شيفرة دافينشي سيخرج وقد حمل تلك " الاسرار " التي تهز ثوابت كل الاديان السماوية حول ما جاءت به عن ولادات الانبياء، وبالاخص السيد المسيح وبعض ميثات حياته المشوبة بالغرابة! من هنا جاء الرفض الكبير لتصوير كود دافينشي فيلما سينمائيا كونه سيحيل تلك الميثات الخطيرة بكل مكاشفاتها الى صور تسجيلية لسيمافور تاريخي يوثّق لأول مرة معلومات دان براون التي تعتبر خيالية ولا اساس لها من الصحة في الذهنية ليس المسيحية حسب، بل حتى الاسلامية. أي بمعنى: خروج الانسان من طور الثوابت الذهنية الى طور المخيلة التاريخية، وسواء اعتبرت تلك " الثوابت " نصوصا اسطورية ام صورا غير حقيقية، فان محاولة دان براون هي ضربة تكسيرية لبنية فكرية ستجر من ورائها جملة من الافكار وستخلق في ذهن الانسان تساؤلات جديدة تبحث لها عن اجوبة مهما كان نوعها لخلاصات اللاهوت. ان هذا كله سيجر بتأثيراته الشديدة على الديانات الاخرى. وليس باستطاعة أحد ان يوقف مثل هذا المد الخطير في عصر تزدحم فيه تكنولوجيا المعلومات والميديا السريعة والشبكة النسيجية للمعلومات..


الخلاصات الخطيرة الخمس:

ولعل من اهم الخلاصات الخطيرة والمثيرة التي سجلها دان براون في كتابه شيفرة دافينشي:

اولا: أن الدين المسيحي قد حرف من قبل أمبراطور وثني والأناجيل الأصلية قد أتلفت.

ثانيا: ان المسيح كان قد تزوج من مريم المجدلية ولهما أبنة أسمها"ساره"

ثالثا: أن المسيح أنسان عادي وليس أله (ودان براون يعيد هنا صورة الصراع القديم بين الاريوسية والاثناسيوسية حول طبيعة السيد المسيح) .

رابعا: أن المسيح قد وكّل مريم المجدلية لتنوب عنه في رئاسة الكنيسة المسيحية وليس الرسول بطرس (مؤسس كنيسة روما).

خامسا: أن مريم المجدلية يجب أن تؤله.

هذه هي الخلاصات الخمس التي تضمنتها شيفرة دافينشي والتي لم تكن مثيرة في الحياة الانسانية مذ انتشرت الرواية مقروءة، ولكن الضجة اثيرت بشكل عاصف بعد ان تقّرر تصوير الرواية في فيلم سينمائي. ولنتخيل كيف سيتم تمثيل واخراج مثل هذه الرواية المعاصرة عن خلاصات دينية تشكّل قداستها مجموعة عقائد اكثر من كونها رموز


تحليل الخلاصات التاريخية:

 ان قراءة التاريخ بمثل هذا الاسلوب لا يمكن قبوله من الناحية العلمية، اذ ان الحقائق لابد ان تعتمد في الكشف عنها على توثيقات كاشفة.. اما ان تكشف رواية ادبية عن " حقائق " تكشف عن خلاصاتها رؤى وانطباعات لما رسمته لوحات رسام عظيم.. فهو عمل لا تاريخي، بقدر ما يعد عملا فلسفيا وادبيا راقيا، اذ تجّلت قدرة دان براون في ان يحيل انطباعات معينة الى تعابير حقيقية والكشف عن مغزى النظرات فضلا عن تفكيك الرؤية التي كان يمتلكها دافنشي، بل والتوغل في اعماقه وتفكيره. دعوني اتوقف في تحليلاتي عند الجوانب التالية:


اولا: هل اقترب دان براون من معتقدات آريوس؟

المعروف أن الأمبراطور قسطنطين قد آمن بالمسيحية منذ شبابه ويقال انه عندما كان يستعد للحرب فرض علامة الصليب على جنوده حملها والتي كانت سببا في كسبه الحرب.. وبالرغم مما يقال عن مسيحيته الا ان الشكوك تدور حول وثنيته ايضا! ولكن كان الانقسام الديني المسيحي قد وصل الى حالة من الاختلاف بين كل من آريوس واتباعه وبين اثناسيوس واتباعه، فما كان من قسطنطين الا ان يأمر بعقد مجمع نيقيا الاول لتثبيت ما يصح من الرأي والتفاسير والذي غدا لاهوتا مع منوال التاريخ.


ثانيا: منوال التاريخ

ان دان براون اليوم يقترب في افكاره وخلاصاته من تفكير آريوس واتباعه والذي لم يزل يلتزم بقاياه المسيحيون من اليعاقبة الشرقيين، بل وبعض ما يدين به الارثودكس من المسيحيين والتي حرّمها الاثناسيوسيون وخصوصا اولئك الذين جعلوا من كنيسة روما مركزا للكاثوليكية التي تؤمن بالوهية المسيح.. ولكّل من الطرفين حججه وبياناته وافكاره التي غدت معتقدات راسخة تختلف عن الاخرى منذ الفي سنة على ولادة المسيحية الاولى التي جاء بها السيد المسيح. صحيح ان دان براون لم يأت بمعتقدات المسيحيين اليعاقبة الشرقيين ناسخا اياها، بل اقترب كثيرا منهم ومن معتقداتهم التي انتشرت بين السريان القدماء في وادي الرافدين (قبل انتشار الكثلكة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وخصوصا عند الكلدان)، بل يقال انها معتقدات كانت منتشرة، ولها أتباع في مناطق خارج سيطرة الأمبراطورية الرومانية كما كانت منتشرة في الجزيرة العربية ويقال أن من أتباعها أسقف مكة ورقة بن نوفل (كذا) ـ كما تشير الى ذلك الروايات المسيحية الشرقية القديمة التي يختلف المسلمون عنها معتبرين ورقة من الاحناف ـ.


ثالثا: مريم المجدلية: من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر!

ليس هناك معلومات كافية ومؤكدة عن قصة مريم المجدلية التي توصف باشنع الصفات والتي حكم رجال الدين اليهود عليها بالقتل رجما بالحجارة وقد صادف وقت تنفيذ الحكم وجود المسيح بينهم ولغرض أحراجه لأنه كان يستهين بهم وبتعاليمهم سألوه عن رأيه في حكمهم على (الزانية) المجدلية وكان رده الشهير الكاسح لهم: "من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بأول حجر"، ولكنهم تركوها وهربوا. أن مريم المجدلية منذ أن أنقذ المسيح حياتها من موت محقق وطلب منها أن لا تعود الى الخطيئة تابت توبة حقيقية وأصبحت من أخلص أتباع المسيح وآمنت به قبل أن تنتشر ديانته المسيحية الجديدة بين البشر، ولم يعرف عن السيد المسيح انه تزوج المجدلية وانجب منها سارة، ولكن هناك من قال بذلك، وجاء دان براون ليؤكد ذلك حقيقة.. اذ تذهب الروايات انها كانت خادمة وتابعة للمسيح.. وسواء كانت خادمة له او تابعة له، فقد شاركته حياته وتعاليمه الروحانية.


رابعا: تأليه مريم المجدلية!!

ولكن؟ كيف يتم تأليه مريم المجدلية؟ هل عدّت مكانتها كمكانة الحواريين والاتباع؟ لم تصل مكانتها الى ما وصلت اليه مكانة الحواريين من السيد المسيح.. ولكن الدعوة لتأليه المجدلية تأتي من كونها زوجا في شفرة دافنشي! وهنا تظهر الفكرة واضحة كما يطرحها اليهود ليس ضد الكاثوليكية فقط، بل ضد المسيحية والاسلام معا ايضا. وهذا ما يشير اليه العديد من الكتّاب المسيحيين الاوربيين والامريكيين خصوصا (والكاثوليك في مقدمتهم) في حين لم اجد حتى الان أي ردود فعل من كتّاب مسيحيين شرقيين حول الموضوع بمثل ما تمتع به اولئك من قوة ورفض


خامسا: النسخة المصّورة لشفرة دافنشي مسببة للهيجان

ان الأميركيين من الغلاة الكاثوليك يكاد يشعِل ناراً باسم معتقداته المقدسة في مواجهة النسخة المصورة من قصة "شفرة دافينشي" لدان براون الذي حّصل من روايته ملايين الدولارات، وحققّت افضل المبيعات.. لقد ساروا في الشوارع والازقة والفناءات والحدائق متظاهرين ومهتاجين وهم يقاطعون ستوديوهات هوليوود بأسرها التي تعمل على اخراج شيفرة دافنشي على شاشات السينما او التلفزيون، وجعل قصة دان براون تدخل كل بيت وغرفة ومقصف.. تظاهروا بقوة ليجعلوا هوليوود تركع على قدميها. ولكن يقف ازاء المتشددين ملايين الكاثوليك جنباً إلى جنب مع البروتستانت واليهود والعلمانييين من اجل تشجيع هوليوود على الاستمرار في اخراج كود دافنشي بكل ما يحتوي عليه.


سادسا: هوليوود تشارك في الحفريات والتفكيك

انها ليست المرة الاولى التي يقف فيها المتشددون من الكاثوليك ضد منتجات هوليوود، اذ منذ عقودٍ زمنية عديدة، كان الكاثوليك من المتشددين الأميركيون يوجهّون انتقادات اخلاقية صارمة لسينما هوليوود واستوديوهاتها ومخرجيها وممثليها.. ولقد كانت الكنيسة محرضة للسيطرة على صناعة السينما الامريكية فيها. ولكن لم يعد اليوم من قانونٍ تلتزم به هوليوود سوى ذلك النوع الذي قدّمه دان براون في روايته الذكية الخطيرة التي نجح فيها بتفكيك التاريخ، بل والاخطر انه لم يجر أي حفريات للاديان، بل اكتشف جملة رؤى من خلال انطباعاته وفحصه وتحليلاته شفرة دافنشي التي لم تزل مليئة بالاسرار والاعاجيب.


وأخيرا: ماذا اقول؟

لم تزل العاطفة الدينية قوية ومتأججة في النفوس وخصوصا في مجتمعاتنا الشرقية، اذ لم يتقبل أي مسلم من المسلمين الملتزمين هذا الذي قدمه دان براون في روايته عن السيد المسيح في شفرة دافنشي، فكيف بالمسيحيين الملتزمين سواء من الكاثوليك ام من غيرهم.. ولكنها تكاد تكون كالامر الواقع سواء عن السيد المسيح او بقية الرسل والانبياء في ان يحفر بعض الكتاب والمفكرين والمؤرخين والروائيين في تواريخهم وما رسم عنهم من نصوص وصور ولوحات وابعاد واشعار.. وايضا التوغل في سيرهم واخلاقياتهم.. الخ واعتقد ان القرن الحادي والعشرين سينتج ابناؤه من هذا الجيل ومن الاجيال الثلاثة القادمة اعمالا مثيرة جدا وفي زمن لا يقبل ابدا ان يبقى أي شئ في طي الكتمان او في كوامن خفية.. ان عصرنا سيشهد المزيد من الجداليات والمرافضات لما ستقوله الاجيال القادمة في الانبياء والقديسين.. وتبقى الكلمة الاخيرة للتاريخ، وسيبقى كل اصيل على اصله واما الزبد فيذهب جفاء.

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)